فصل: تفسير الآيات (12- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (12- 13):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِي إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً}: هذه الآيةُ المتضمِّنة للخَبَرِ عن نَقْضِهِمْ مواثيقَ اللَّه تعالى تُقَوِّي أنَّ الآية المتقدِّمة في كَفِّ الأَيْدِي، إنَّما كانَتْ في أمر بني النَّضِيرِ، والإجماعُ على أنَّ النقيب كَبِيرُ القَوْمِ، القائمُ بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاءِ النُّقَبَاءُ قوْمٌ كبارٌ مِنْ كُلِّ سبْطٍ، تكَفَّل بكلِّ واحدٍ سِبْطُهُ، بأنْ يؤمنوا ويلتزموا التقوى،
قال * ع *: ونحو هذا كانَتِ النقباءُ ليلَةَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ، مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والضميرُ في {مَعَكُمْ}، لبني إسرائيل، أيْ: معكم بنَصْري، وحِيَاطَتِي، وتأييدي، واللام في قوله: {لَئِنْ}: هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، ولامُ القَسمِ هي قوله: {لأُكَفّرَنَّ}؛ والدليل على أنَّ هذه اللام إنما هي مؤذنةٌ: أنَّهَا قد يستغنى عنها أحياناً، ويتمُّ الكلامُ دونها، ولو كانَتْ لاَمَ قَسَمٍ، لم يترتَّب ذلك، وإقامةُ الصلاةِ: توفيةُ شروطها، والزكاةُ هنا: شَيْءٌ من المالِ كان مفروضاً عليهم فيما قال بعضُ المفسِّرين، وعَزَّرتموهم: معناه: وقَّرْتُمُوهم، وعَظَّمْتموهم، ونَصَرْتُموهم، وقرأ عاصمٌ الجَحْدَرِيُّ: {وَعَزَرْتُمُوهُمْ} خفيفة الزاي؛ حيثُ وقع، وقرأ في سورة الفتحِ: {وتَعْزُرُوهُ} بفتح التاء، وسكونِ العينِ، وضمِّ الزاي، وسَواءُ السَّبِيلِ: وَسَطُه، وسائرُ ما في الآية بَيِّن، واللَّه المستعان.
وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قاسية...} الاية: أيْ: فبنقضِهِمْ، والقَسْوَةُ: غَلِظ القَلْب، ونُبُوُّهُ عن الرِّقَّة والمَوْعِظَة، وصَلاَبَتُهُ حتى لا ينفعلَ لخَيْرٍ.
وقوله تعالى: {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}: نصٌّ على سوءِ فِعْلِهِمْ بأنفسهم، أي: قد كان لهم حظٌّ عظيمٌ فيما ذُكِّروا به، فَنَسُوه، وتركُوه، ثم أخبر تعالى نبيَّه عليه السلام؛ أنه لا يَزَالُ في مستأْنَفِ الزَّمان يطَّلع على خائِنَةٍ منهم، وغائلةٍ، وأمورٍ فاسدةٍ.
قالت فرقة: خَائِنَة: مصدرٌ، والمعنى: على خِيَانَةٍ، وقال آخرون: معناه: على فرْقَةٍ خائِنَةٍ، فهي اسمُ فاعلٍ صفةٌ لمؤنَّث.
وقوله تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واصفح}: منسوخٌ بما في براءة، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
وقوله تعالى: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى}: {مِنْ}: متعلِّقة ب {أَخَذْنَا}، التقديرُ: وأخذْنَا مِنَ الذين قالُوا: إنَّا نصارى ميثاقَهُمْ، ويحتملُ أنْ تكون معطوفةً على {خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ}، والأولُ أرجَحُ، وعلَّق قولهم: {نصارى} بقولهم ودعواهم؛ مِنْ حيث هو اسمٌ شرعيٌّ يقتضي نَصْرَ دينِ اللَّه، وسَمَّوْا به أنفُسَهُمْ دُون استحقاق.
وقوله سبحانه: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة}: أي: أثبتْنَاها بيْنَهم وألْصَقْنَاها، والإغْرَاءُ: مأخوذ من الغِرَاءِ الذي يُلْصَقُ به، وقال البُخَارِيُّ: الإغراءُ: التسليط. انتهى.
والضمير في {بَيْنَهُمْ} يحتملُ أنْ يعود على اليَهُودِ، والنصارى؛ لأنَّ العداوةَ بَيْنهم موجودةٌ مستمرَّةٌ، ويحتملُ أن يعود على النصارى فقطْ؛ لأنها أُمَّة متقاتِلَةٌ بينها الفِتَنُ إلى يَوْم القيامة، ثم توعَّدهم بعذابِ الآخرة؛ إذْ صُنْعهم كُفْرٌ يوجب الخُلُود في النار.
واعلَمْ رحمك اللَّه؛ أنه قَدْ جاءَتْ آثارٌ صحيحةٌ في ذَمِّ الشحناءِ والتباغُضِ والهِجْرَانِ لغَيْر موجِبٍ شرعيٍّ، ففي صحيح مُسْلِمٍ، عن أبي هُرَيْرة؛ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنَ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيه شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا»، وفي روايةٍ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ خَمِيسٍ واثنين، فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لِكُلِّ امرئ لاَ يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً» الحديث. انتهى.
وروى ابنُ المُبَارَكِ في رقائقه بسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرِئ مُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَإنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا على صِرَامِهِمَا، فَأَوَّلُهُمَا فَيْئاً يَكُونُ سَبْقُهُ بِالفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، وَإنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ، رَدَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ، وَرَدَّتْ عَلَى الآخَرِ الشَّيَاطِينُ، وإذَا مَاتَا على صِرَامِهِمَا، لَمْ يَدْخُلاَ الجَنَّةَ»، أُرَاهُ قَالَ: أَبَداً. انتهى، وسنده جيِّد، ونصَّه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبةُ عَنْ يزيدَ الرِّشْكِ، عن مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عامرٍ يقول: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديثَ.
وقوله: «لَمْ يدخُلاَ الجَنَّةَ»: ليس على ظاهره، أيْ: لم يدخُلاَ الجَنَّة أبداً؛ حتى يقتصَّ لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحلَّ الشفاعة؛ حَسْبما هو معلومٌ في صحيح الآثار.

.تفسير الآيات (15- 17):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
وقوله سبحانه: {ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب...} الآية: أهْلُ الكتابِ: لفظٌ يعمُّ اليهودَ والنصارى، ولكنْ نوازل الإخفاء؛ كالرَّجْم وغيره، إنما حُفِظَتْ لليهود؛ لأنهم كانوا مُجَاوِرِي رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مُهَاجَرِهِ، وفي إعلامه صلى الله عليه وسلم بِخَفِيِّ ما في كُتُبِهِمْ، وهو أُمِّيٌّ لاَ يَكْتُبُ، ولا يَصْحَبُ القُرَّاءَ دليلٌ على صحَّة نبوَّته؛ لو ألهمهم اللَّه للخَيْر، {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}: أي: لم يفْضَحْهم فيه؛ إبقاءً عليهم، والضميرُ في {يَعْفُوَاْ} للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ}: هو محمَّد صلى الله عليه وسلم، و{كتاب مُّبِينٍ}: هو القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ موسى عليه السلام، والتوراةُ: أي: لو اتبعتموها حقَّ الاِتِّباع، والأوَّل هو ظاهر الآية، وهو أظهر، و{سُبُلَ السلام}: أي: طُرُقَ السلامةِ والنَّجَاةِ، ويحتملُ أنْ يكون {السَّلاَم} هنا اسما من أسماءِ اللَّه عزَّ وجلَّ، فالمعنى: طُرُق اللَّه، و{الظلمات}: الكُفْر، و{النور}: الإيمان، وباقي الآية بيِّن متكرِّر.
وقوله سبحانه: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ}: أيْ: لا مَالِكَ، ولا رادَّ لإرادةِ اللَّه تعالى في المسيحِ، ولا في غَيْرِهِ.
وقوله سبحانه: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء}: إشارةٌ إلى خلقه المسيحَ في رَحِمِ مَرْيَمَ من غير والد، بل اختراعاً؛ كآدم عليه السلام.
وقوله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}: عموم معناه الخصوص فيما عدا الذَّات، والصفاتِ، والمحالاتِ.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
وقوله سبحانه: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أبناؤا الله وأحباؤه...} الآية: البُنُوَّة؛ في قولهم هذا: بنوةُ الحَنَانِ والرأفة، لأنهم ذكروا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى إسرائيل؛ أن أول أولادك بِكْرِي؛ فضلُّوا بذلك، وقالوا: {نَحْنُ أبناؤا الله وأحباؤه}، ولو صح ما رَوَوْا، لكان معناه: بِكْراً في التشريف أو النبوَّة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبيُّ عليه السلام إلى الإيمان به، وخوفِهِم العذابَ، فقالوا: نحن لا نخافُ ما تقول؛ لأنا أبناء اللَّه وأحبَّاؤه؛ ذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في غير ما موطنٍ: نحن نَدْخل النار، فنقيم فيها أربعين يوماً، فردَّ اللَّه عليهم قولهم، فقال لنبيه عليه السلام: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}: أي: لو كانتْ منزلتكم منه فوق منازِلِ البَشَر، لَمَا عذَّبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذِّبكم، ثم ترك الكلامَ الأوَّل، وأضرب عنه غَيْرَ مفسدٍ له، ودخل في غيره، فقال: بَلْ أنتم بشَرٌ كسائر الناسِ، والخلقُ أكرمُهم عند اللَّه أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفرُ له ويُورِّطُ من يشاء في الكُفْر، فيعذِّبه، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، فله بحق المُلْك أنْ يفعل ما يشاء، ولا معقِّب لحُكْمه، وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد.

.تفسير الآية رقم (19):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
وقوله تعالى: {ياأهل الكتاب}: يعني: اليهودَ والنصارى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: محمد عليه السلام.
وقوله: {على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل}: أي: على انقطاعٍ من مجيئهم مدَّةً مَّا، والفَتْرةُ: سُكونٌ بعد حَرَكَةٍ؛ في الأجرام، ويستعار ذلك للمعانِي، وقد قال عليه السلام: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةٌ، ولِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةٌ»، وفي الصحيح؛ أنَّ الفترةَ التي كانَتْ بَيْنَ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وبين عيسى سِتُّمائةِ سَنَةٍ، وهذه الآية نزلَتْ بسبب قولِ اليهود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ بَعد موسى مِنْ شَيْءٍ؛ قاله ابن عَبَّاس.
وقوله: {أَن تَقُولُواْ}: معناه: حِذَاراً أنْ تقولوا يوم القيامة: {مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}، وقامتِ الحُجَّة عليكم، {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}؛ فهو الهادِي والمضلُّ لا رَبَّ غيره.

.تفسير الآيات (20- 22):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ...} الآية: المعنى: واذكُرْ لهم، يا محمَّد؛ على جهة إعلامهم بغيب كتبهم؛ ليتحقَّقوا نبوَّتك، ثمَ عَدَّدَ عيُونَ تلك النِّعم، فقال: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ}: أي: حاطةٌ، ومنقذون من النار، وشَرَفٌ في الدنيا والآخرة، {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً}، أي: فيكم ملوكاً؛ لأن المُلْك شَرَفٌ في الدنيا، وحَاطَةٌ في نوائبها، {وءتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العالمين}، قال مجاهد: هو المَنُّ والسلوى، والحَجَر، والغَمَام، وقال غيره: كثرة الأنبياء؛ وعلى هذا القول: فالعالَمُونَ على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعَالَمُونَ عالَمُ زمانهم؛ لأنَّ ما أوتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم من آيات اللَّه أكْثَرُ من ذلك، و{المقدسة} معناه: المطهَّرة، قال ابن عباس: هي الطُّور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، قال الطبريُّ: ولا يختلف أنَّها بيْنَ الفُرَاتِ وعريشِ مِصْرَ.
قال * ع *: وتظاهرت الرواياتُ؛ أنَّ دِمَشْقَ هي قاعدةُ الجَبَّارِينَ، ثم حذَّرهم موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوعُ القهقرى، والخاسرُ: الذي قد نقص حظُّه، ثم ذكر عز وجل؛ أنهم تعنَّتوا ونَكصُوا، قالوا يا موسى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ}، والجَبَّار: من الجَبْر؛ كأنه لِقُدْرته وغَشْمه وبَطْشه يَجْبُرُ الناس على إرادته، والنَّخْلَةُ الجُبَارَةُ: العاليةُ التي لا تُنَالُ بيدٍ، وكان من خبر الجَبَّارين؛ أنهم كانوا أهلَ قوَّة، فلما بعث موسى الإثْنَيْ عَشَرَ نقيباً مُطَّلِعِينَ من أمر الجبَّارين، وأحوالهم، رأَوْا لهم قوةٌ وبطْشاً وتخيَّلوا أن لا طاقة لهم بهم، فتعاقدوا بينهم على أنْ يُخْفُوا ذلك مِنْ بني إسرائيل، وأنْ يعلموا به موسى؛ ليرى فيه أمر ربه، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عَشَرة، فعرَّفوا قراباتِهِمْ، ومَنْ وثِقُوا به، ففشا الخَبَر؛ حتى اعوج أمْرُ بني إسرائيل، وقالوا: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]، ولم يفِ مِنَ النُّقَبَاء إلا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يُوفَتَّا، ويقال فيه: كَالُوث بثاء مثلَّثة.

.تفسير الآيات (23- 26):

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}
وقوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} أي: يخافُونَ اللَّه سبحانَهُ؛ قال أكْثر المفسِّرين: الرجُلاَن يُوشَعُ بنُ نُونٍ، وهو ابنُ أخْتِ موسى، وكَالِبُ بْنُ يُوفَتَّا، {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بالإيمان الصحيحِ، ورَبْطِ الجَأْشِ، والثبوتِ، وقولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا...} الآية: عبارةٌ تقتضي كفراً، وقيل: المعنى: فاذهب أنْتَ وربك يعينُكَ، وأنَّ الكلام معصية لا كُفْر، وذكر ابن إسحاق وغيره؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كلَّم النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَسْنَا نَقُولُ؛ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون}، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بنَحْوِ هذا المعنى»، ولما سَمِعَ موسى عليه السلام قولهم، ورأى عصيانهم، تبرَّأ إلى اللَّه منهم، وقال داعياً عليهم: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي}، يعني: هارونَ.
وقوله: {فافرق بَيْنَنَا}: دعاء حرجٍ، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي: قال اللَّه، وحرَّم اللَّه تعالى على بني إسرائيل دخولَ تلك المدينة أربعين سنةً يتيهونَ في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فَحْص التيه؛ وهو؛ على ما يحكى: طولُ ثلاثين ميلاً، في عَرْضِ ستَّةِ فراسِخَ، ويروى أنه لم يدخلِ المدينةَ أحد من ذلك الجِيلِ إلاَّ يُوشَعَ، وكَالُوث، وروي أنَّ يُوشَعَ نُبِّئ بعد كمالِ الأربعين سنَةً، وخرَجَ ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجَبَّارين، وفتح المدينةَ، وفي تلك الحَرْب، وقفَتْ له الشمسُ ساعةً، حتى استمرَّ هزم الجبَّارين، والتيه: الذَّهَاب في الأرض إلى غير مقصِدٍ معلوم.
وقوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} معناه: فلا تحزَنْ، والخطابُ بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابنُ عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن عليهم، فقال الله له: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين}.

.تفسير الآيات (27- 30):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}
وقوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً...} الآية: اتل: معناه: اسرد وأَسْمِعْهم إياه، وهذه مِنْ علوم الكتب الأُوَلِ، فهي مِنْ دلائل نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ إذْ هي من غامِضِ كتب بني إسرائيل. قال الفَخْر: وفي الآية قولان:
أحدهما: اتل على الناس.
والثاني: اتل على أهْلِ الكتابِ. انتهى.
و{ابني ءَادَمَ}: هما لصلبه، وهما هَابِيلُ وقَابِيلُ، روت جماعة من المفسِّرين منهم ابن مسعود؛ أنَّ سبب هذا التقريبِ أنَّ حوَّاء كانت تَلِدُ في كلِّ بطْن ذكراً وأنثى، وكان الذَّكَر يتزوَّج أنثَى البطْن الآخر، ولا تحلُّ له أخته توأمتُهُ، فولدَتْ مع قابيلَ أختاً جميلةً، ومع هابيلَ أختاً ليست كذلك، فلمَّا أراد آدم أن يزوِّجها من هَابِيلَ، قال قابيل: أنا أحَقُّ بأختي، فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التَّقْريب، فتُقُبِّل قربانُ هابيلَ، ووجب أنْ يأخذ أخت قابيلَ؛ فحينئذٍ: {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ}، وقولُ هابيلَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}: كلامٌ، قبله محذوفٌ، تقديره: ولِمَ تقتلُنِي، وليس لي ذنُبٌ في قبول اللَّه قربانِي، وإنما يتقبَّل اللَّه من المتَّقين؟! وإجماع أهل السُّنَّة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشِّرْكِ، فمن اتقاه، وهو موحِّد، فأعماله التي تَصْدُقُ فيها نيتُه مقبولةٌ، وأما المتَّقِي للشرْكِ وللمعاصِي، فله الدرجةُ العليا من القَبُول والخَتْم بالرحمة، عُلمَ ذلك بإخبار اللَّه تعالى لا أنَّ ذلك يَجِبُ على اللَّه تعالى عقْلاً.
قلتُ:
قال * ع *: في معنى هذه الألفاظ يعني حيث وقعت في الشرع، وأما في هذه الآية، فليس باتقاء شرك؛ على ما سيأتي، وقولُ هابيلَ: {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ...} الآية: قال عبد اللَّه بن عمر، وجمهورُ النَّاس: كان هابيلُ أشَدَّ قوةً من قابيلَ، ولكنَّه تحرَّج، وهذا هو الأظهر.
قال * ع *: ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاصٍ، لا كافر؛ لأنه لو كان كافراً، لم يكن للتحرُّج هنا وجهٌ، و{تَبُوَأ}: معناه: تمضِي متحمِّلاً، وقوله: {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ}: قيل: معناه: بإثم قَتْلي وسائرِ آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختصُّ بي فيما فَرَط لي، وهذا تأويلٌ يَعْضُدُه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بِالظَّالِمِ وَالمَظْلُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ المَظْلُومِ حتى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ من سَيِّئَاتِ المَظْلوم، فتُطْرح عليه». وقوله: {وَذَلِكَ جزاؤا الظالمين} يحتملُ: أن يكون مِنْ قول هابيلَ لأخيه، ويحتمل: أن يكون إخباراً من اللَّه تعالى لمحمَّد عليه السلام، قال الفَخْر: وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} قال المفسرون: معناه: سَهَّلَتْ له نفسه قَتْل أخيه. انتهى.
وقوله سبحانه: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين}: أصْبَحَ: عبارةٌ عن جميعِ أوقاتِهِ، وهذا مَهْيَعُ كلامِ العرب؛ ومنه: [المنسرح]
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَح

البَيْتَ.
وقول سعد: فَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي، إلى غير ذلك مِن استعمال العرب، ومِنْ خسرانِ قابيلَ ما صحَّ، وثبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قَالَ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابن آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»؛ وذلك لأنه أول مَنْ سَنَّ القتل.